في عالم ريادة الأعمال، تُولد المشاريع من رحم الحماسة، وتُغذى بالأمل، وتُروى بالاجتهاد.. لكنها تموت غالبًا بسبب الغفلة عن أول خطوة، وأهم خطوة وهي: دراسة الجدوى.
بينما يندفع كثير من رواد الأعمال إلى إطلاق مشاريعهم دون دراسة شاملة ومدروسة، يرتكبون دون أن يشعروا أخطاءً قاتلة تقضي على الحلم قبل أن يخطو خطواته الأولى. في هذا المقال، نرصد ستة من أكثر أخطاء دراسة جدوى شيوعًا، والتي يدفع رواد الأعمال ثمنها غاليًا، خاصة في السوق السعودي الذي يشهد زخمًا استثماريًا متسارعًا وتنافسًا محمومًا.
1. بناء المشروع على افتراضات غير واقعية
أول وأخطر خطأ يرتكبه رائد الأعمال هو أن يبني مشروعه على "إحساس" أو "فكرة عبقرية" دون اختبار حقيقي للسوق أو لهذه الفكرة. فإذا رأيت المقاهي مزدحمة في جدة، فذلك لا يعني أن فتح مقهى في أي حي سيكون ناجحًا. وإذا كان هناك تطبيق يحقق الملايين، فهل تقليد هذا التطبيق سيحقق نفس العوائد؟
رواد الأعمال ودراسة الجدوى يجب أن يكونا وجهين لعملة واحدة. لأنه بدون تحليل دقيق للسوق، وللمنافسين، ولسلوك المستهلك، يصبح المشروع من يزرع في أرض لا يعرف تربتها.
2. تجاهل التكاليف الخفية
واحدة من مخاطر بدون دراسة جدوى أن التكاليف الحقيقية تظل مجهولة حتى يصطدم بها المشروع في منتصف الطريق. الإيجارات، التصاريح، الرسوم الحكومية، تكاليف الصيانة، العمالة، الضرائب، فترات الركود الموسمية.. كلها نفقات لا تظهر في الخيال، بل تكشفها الدراسة الدقيقة. غياب هذه الحسابات قد يجعل المشروع يبدو مربحًا على الورق، لكنه في الواقع ينزف منذ يومه الأول.
3. المبالغة في تقدير الأرباح
هنا يقع الحلم فريسة الأوهام.. كثير من رواد الأعمال يكتبون في خططهم أرقامًا جذابة لدرجة الخداع: سنعوّض رأس المال في 6 أشهر"، أو "سنحقق نموًا بنسبة 300% في العام الأول.
لكن دراسة الجدوى ليست مكانًا للتمنيات، بل للواقعية. عندما يُهمَل هذا الجانب، يُخدع المستثمر، ويُضلل الفريق، ويُبنى المشروع على وعود سرابية. ثم تأتي الصدمة، ويبدأ الانهيار.
4. إغفال الخطة البديلة
السوق لا يرحم، والتقلبات جزء من طبيعته. لكن من أسوأ أخطاء دراسة جدوى أن يتم إعدادها على أساس سيناريو واحد فقط: كل شيء سيسير كما خُطط له.
§ ماذا لو ارتفعت التكاليف؟
§ ماذا لو فشل التسويق؟
§ ماذا لو ظهرت منافسة أقوى؟
دراسة الجدوى الاحترافية يجب أن تتضمن سيناريوهات متعددة، وتضع خطط طوارئ بديلة، بحيث لا يُترك المشروع عاريًا أمام أول عاصفة.
5. تجاهل التحولات في السوق السعودي
الاقتصاد السعودي اليوم يشهد تغيرات جوهرية: دخول قطاعات جديدة، تحولات في سلوك المستهلك، تطورات تشريعية، نمو في التجارة الإلكترونية. الاعتماد على بيانات قديمة أو دراسات غير محلية يُعد انتحارًا بطيئًا للمشروع.
رواد الأعمال ودراسة الجدوى لا بد أن يرتبطوا بسياقهم الواقعي؛ أن يتابعوا المؤشرات الحكومية، وبيانات الهيئة العامة للإحصاء، وتقارير السوق، ليتأكدوا أن مشروعهم لا يسبح عكس التيار.
6. استبعاد المختصين
من أسوأ ما يمكن أن يفعله رائد أعمال طموح هو أن يقرر إعداد دراسة الجدوى بنفسه، اعتمادًا على حدسه أو معلومات سطحية. دراسة الجدوى تحتاج إلى مختصين يفهمون السوق، ويمتلكون أدوات التحليل، ويعرفون كيف يحوّلون الفكرة إلى خطة. وكما لا تبني منزلاً دون مهندس، لا تطلق مشروعًا دون خبير دراسة جدوى. هذا الاستهتار لا يوفر المال كما يظن البعض، بل يهدره لاحقًا عندما تتكشّف العيوب بعد فوات الأوان.
لا تبدأ الرحلة قبل أن ترسم الخريطة
ريادة الأعمال مغامرة رائعة، لكنها لا تُقاد بالعاطفة وحدها، ووسط بيئة تنافسية مثل المملكة العربية السعودية، حيث تكثر الفرص بقدر ما تكثر التحديات، تصبح دراسة الجدوى ليست ترفًا أو إجراءً شكليًا، بل شرطًا للبقاء والنجاح.
كل خطأ من هذه الأخطاء الستة يمكن أن يكون كافيًا لكي يفشل مشروع واعد. لكن تجنّبها لا يتطلب معجزة، بل عقلًا راشدًا، ورؤية واعية، واستعانة بالمختصين. ابدأ من حيث يجب أن يبدأ كل مشروع ناجح: من دراسة جدوى حقيقية، دقيقة، شاملة.. لأنها ليست مجرد ورقة، بل هي درعك الأول ضد الفشل، وجواز مرورك إلى عالم النجاح بثقة واستحقاق.